فصل: ذكر تجدُّد الوحشة بين مؤنس والمقتدر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر مسير القرامطة إلى مكّة وما فعلوه بأهلها وبالحجّاج وأخذهم الحجر الأسود:

حجّ بالناس في هذه السنة منصور الديلميُّ، وسار بهم من بغداد إلى مكّة، فسلموا في الطريق، فوافاهم أبو طاهر القرمطيُّ بمكّة يوم التروية، فنهب هو وأصحابه أموال الحجّاج، وقتلوهم حتّى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه، وقلع الحجر الأسود ونفّذه إلى هَجَر، فخرج إليه ابن محلب، أمير مكّة، في جماعة من الأشراف، فسألوه في أموالهم، فلم يشفّعهم، فقاتلوه، فقتلهم أجمعين، وقلع باب البيت، وأصعد رجلاً ليقلع الميزاب فسقط فمات، وطرح القتلى في بئر زمزم ودفن الباقين في المسجد الحرام حيث قُتلوا بغير كفن، ولا غسل، ولا صُلّي على أحد منهم، وأخذ كسوة البيت فقسمها بين أصحابه، ونهب دور أهل مكّة.
فلّما بلغ ذلك المهديَّ أبا محمّد عبيدالله العلويَّ بأفريقية كتب إليه ينكر عليه ذلك، ويلومه، ويلعنه، ويقيم عليه القيامة، ويقول: قد حققتَ على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإِلحاد بما فعلتَ، وإن لم تردّ على أهل مكّة وعلى الحجّاج وغيرهم ما أخذتَ منهم، وتردّ الحجر الأسود إلى مكانه، وتردّ كسوة الكعبة، فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة.
فلمّا وصله هذا الكتاب أعاد الحجر الأسود على ما نذكره، واستعاد ما أمكنه من الأموال من أهل مكّة، فردّه، وقال: إنّ الناس اقتسموا كسوة الكعبة وأوال الحُجّاج، ولا أقدر على منعهم.

.ذكر خروج أبي زكريّاء وإخوته بخراسان:

في هذه السنة خرج أبو زكرياء يحيى، وأبو صالح منصور، وأبو إسحاق إبراهيم، وأولاد أحمد بن إسماعيل السامانيّ، على أخيهم السعيد نصر ابن أحمد، وقيل كان ذلك سنة ثماني عشرة وهو الصحيح.
وكان سبب ذلك أنّ أخاهم نصراً كان قد حبسهم في القَهندز ببخارى، ووكّل بهم مَن يحفظهم، فتخلّصوا منه؛ وكان سبب خلاصهم أنّ رجلاً يُعرف بأبي بكر الخبّاز الأصبهانيّ كان يقول، إذا جرى ذكر السعيد نصر بن أحمد: أنّ له منّي يوماً طويلاً البلاء والعناء، فكان الناس يضحكون منه، فخرج السعيد إلى نَيسابور، واستخلف ببخارى أبا العبّاس الكوسج، وكانت وظيفة إخوته تُحمل إليهم من عند أبي بكر الخبّاز هذا وهم في السجن، فسعى لهم أبو بكر مع جماعة من أهل العسكر ليخرجوهم، فأجابوه إلى ذلك، وأعلمهم ما سعى لهم فيه.
فلمّا سار السعيد عن بخارى تواعد هؤلاء للاجتماع بباب القَهندز يوم جمعة، وكان الرسم أن لا يفتح باب القهندز أيّام الجمع إلاّ بعد العصر، فلّما كان الخميس دخل أبو بكر الخبّاز إلى القهندرّ قبل الجمعة التي اتّعدوا الإِجتماع فيها بيوم، فبات فيه، فلّما كان الغد، وهو الجُمعة، جاء الخبّاز إلى باب القهندز، وأظهر للبّواب زهداً وديناً، وأعطاه خمسة دنانير ليفتح له الباب ليخرجه لئلاّ تفوته الصلاة، ففتح له الباب، فصاح أبو بكر الخبّاز بمن وافقه على إخراجهم، وكانوا على الباب، فأجابوه، وقبضوا على البوّاب، ودخلوا وأخرجوا يحيى، ومنصوراً، وإبراهيم بني أحمد بن إسماعيل من الحبس، مع جميع مَن فيه من الديلم، والعلويّين، والعيّارين، فاجتمعوا، واجتمع إليهم من كان وافقهم من العسكر، ورأسهم شروين الجيليُّ وغيره من القوّاد.
ثمّ إنّهم عظمت شوكتهم، ونبهوا خزائن السعيد نصر بن أحمد ودوره وقصوره، واختصّ يحيى بن أحمد أبا بكر الخبّاز وقدّمه وقوّده، وكان السعيد إذ ذاك بنَيسابور، وكان أبو بكر محمّد بن المظفَّر، صاحب جيش خُراسان، بجُرجان، فلمّا خرج يحيى وبلغ خبره السعيد، عاد من نَيسابور إلى بخارى، وبلغ الخبز إلى محمّد بن المظفَّر، فراسل ما كان بن كالي، وصاهره، وولاّه نَيسابور، وأمره بمنعها مّمن يقصدها، فسار ما كان إليها، وكان السعيد قد سار من نَيسابور إلى بخارى، وكان يحيى وكّل بالنهر أبا بكر الخبّاز، فأخذه السعيد أسيراً، وعبر النهر إلى بخارى فبالغ في تعذيب الخبّاز، ثم ألقاه في التنور الذي كان يخبز فيه، فاحترق.
وسار يحيى من بخارى إلى سَمَرْقَنْد، ثمّ خرج منها واجتاز بنواحي الصَّغانيان وبها أبو عليّ بن أبي بكر محمّد بن المظفَّر، وسار يحيى إلى ترمذ، فعبر النهر إلى بلَخ وبها قراتكين، فوافقه قراتكين، وخرجا إلى مرو، ولّما ورد محمد بن المظفَّر بِنَيسابور كاتبه يحيى، واستماله، فأظهر له محمّد الميل إليه، ووعده المسير نحوه، ثمّ سار عن نَيسابور، واستخلف بها ما كان بن كالي، وأظهر أنّه يريد مَرو، ثمّ عدل عن الطريق نحو بوشنج وهَراة مسرعاً في سيره واستولى عليهما.
وسار محمّد عن هراة نحو الصَّغانيان على طريق غَرِشسْتان، فبلغ خبره يحيى فسيّر إلى طريقه عسكراً فلقيهم محمّد فهزمهم وسار عن غَرشِستان، واستمدّ ابنه أبا عليّ من الصغانيان، فأمدّه بجيش، وسار محمّد بن المظفّر إلى بلخ، وبها منصور بن قراتكين، فالتقيا، واقتتلا قتالاً شديداً، فانهزم منصور إلى جَوزَجان، وسار محمّد إلى الصغانيان، فاجتمع بولده، وكتب إلى السعيد بخبره، فسرّه ذلك وولاّه بلخ، وطُخَارِستان واستقدمه فولاّهما محمّدٌ ابنه أبا علي أحمد، وأنفذه إليهما، ولحق محمّد بالسعيد، فاجتمع به ببلخ رستاق، وهو في أثر يحيى وهو بهَراة.
وكان يحيى قد سار إلى نَيسابور، وبها ما كان بن كالي، فمنعه عنها، ونزلوا عليها، فلم يظفروا بها، وكان مع يحيى محمّد بن إلياس، فاستأمن إلى ما كان، واستأمن منصور وإبراهيم أخو يحيى إلى السعيد نصر، فلمّا قارب السعيد هراة، وبها يحيى وقراتكين، وسارا عن هراة إلى بلخ، فاحتال قراتكين ليصرف السعيد عن نفسه، فأنفذ يحيى من بلخ إلى بخارى، وأقام هو ببلخ، فعطف السعيد إلى بخارى، فلمّا عبر النهر هرب يحيى من بخارى إلى سَمَرْقَنْد، قمّ عاد من سَمَرْقَنْد ثانياً، فلم يعاونه قراتكين، فسار إلى نَيسابور، وبها محمّد بن إلياس قد قوي أمره، وسار عنها ما كان إلى جُرجان؛ ووافقه محمّد بن إلياس، وخطب له، وأقاموا بنَيسابور.
وكان السعيد في أثر يحيى لا يمكنه من الاستقرار، فلمّا بلغهم خبر مجيء السعيد إلى نَيسابور تفرّقوا، فخرج ابن إلياس إلى كَرْمان وأقام بها، وخرج قراتكين ومعه يحيى إلى بست والرخجّ، فأقاما بها، ووصل نصر بن أحمد نَيسابور في سنة عشرين وثلاثمائة، فأنفذ إلى قراتكين، وولاّه بلخ، وبذل الأمان ليحيى، فجاء إليه، وزالت الفتنة، وانقطع الشر وكان قد دام هذه المدّة كلها.
وأقام السعيد بنَيسابور إلى أن حضر عنده يحيى، فأكرمه، وأحسن إليه، ثمّ مضى بها لسبيله هو وأخوه أبو صالح منصور، فلمّا رأى أخوهما إبراهيم ذلك هرب من عند السعيد إلى بغداد، ثمّ منها إلى الموصل، وسيأتي خبره إنّ شاء الله تعالى.
وأمّا قراتكين فإنّه مات ببُست، ونُقل إلى أسبيجاب، فدُفن بها في رباطه المعروف برباط قراتكين، ولم يملك ضيعة قطّ، وكان يقول: ينبغي للجنديّ أن يصحبه كلّ ما ملك أين سار، حتّى لا يعتقله شيء.

.ذكر عدّة حوادث:

في هذه السنة، منتصف المحرّم، وقعت فتنة بالموصل بين أصحاب الطعام وبين أهل المربّعة والبزّازين، فظهر أصحاب الطعام عليهم أوّل النهار، فانضمّ الأساكفة إلى أهل المربّعة والبزّازين فاستظهروا بهم، وقهروا أصحاب الطعام وهزموهم وأحرقوا أسواقهم.
وتتابعت الفتنة بعد هذه الحادثة واجترأ أهل الشر، وتعاقد أصحاب الخُلقان والأساكفة على أصحاب الطعام، واقتتلوا قتالاً شديداً دام بينهم، ثمّ ظفر أصحاب الطعام فهزموا الأساكفة ومَن معهم، وأحرقوا سوقهم، وقتلوا منهم، وركب أمير الموصل، وهو الحسن بن عبد الله بن حَمدان الذي لُقّب بعدُ بناصر الدولة ليسكن الناس، فلم يسكنوا ولا كفّوا، ثمّ دخل بينهم ناس من العلماء وأهل الدين، فأصلحوا بينهم.
وفيها وقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المَرْوَزيّ الحَنبليّ وبين غيرهم من العامّة، ودخل كثير من الجند فيها؛ وسبب ذلك أنّ أصحاب المَرْوَزيّ قالوا في تفسير قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} الاسراء: 79؛ هو أنّ الله سبحانه يُقعد النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، معه على العرش؛ وقالت الطائفة الأخرى: إنّما هو الشفاعة، فوقعت الفتنة واقتتلوا، فقُتل بينهم قتلى كثيرة.
نوفيها ضعفت الثغور الجزريّة عن دفع الروم عنهم، منها مَلَطْية وميّافارقين وآمِد وأرزَن وغيرها، وعزموا على طاعة ملك الروم والتسليم إليه لعجز الخليفة المقتدر بالله عن نصرهم، وأرسلوا إلى بغداد يستأذنون في التسليم، ويذكرون عجزهم، ويستمدّون العساكر لتمنع عنهم، فلم يحصلوا على فائدة، فعادوا.
وفيها قُلّد القاضي أبو عمر محمّدُ بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق ابن حمّاد بن زيد قضاء القضاة. وفيها قُلّد ابنا رائق شُرطة بغداد مكان نازوك.
وفيها مات أحمد بن منيع، وكان مولده سنة أربع عشرة ومائتين.
وفيها أقرّ المقتدر بالله ناصر الدولة الحسن بن أبي الهيجاء عبدالله بن حمدان على ما بيده من أعمال قَرْدَى وبازَبْدَى، وعلى إقطاع أبيه وضياعه.
وفيها قُلّد نحرير الصغير أعمال الموصل، فسار إليها، فمات بها في هذه السنة، ووليها بعده ناصر الدولة الحسن بن عبدالله بن حَمدان في المحرّم من سنة ثماني عشرة وثلاثمائة.
وفيها سار حاجّ العراق إلى مكّة على طريق الشام فوصلوا إلى الموصل أوّل شهر رمضان، ثمّ منها إلى الشام، لانقطاع الطريق بسبب القُرمطّي، وكانت كسوة الكعبة مع ابن عبدوس الجهشياريّ لأنّه كان من أصحاب الوزير.
وفيها، في شعبان، ظهر بالموصل خارجيٌّ يُعرف بابن مطر، وقصد نَصِيبين، فسار إليها ناصر الدولة بن حَمدان، فقاتله، فأسره. وظهر فيها أيضاً خارجيٌّ اسمه محمّد بن صالح بالبوازيج، فسار إليه أبو السرايا نصر بن حَمدان، فأخذه أيضاً.
وفيها التقى مفلح الساجيُّ والدّمُسْتُق، فاقتتلا، فانهزم الدمستق ودخل مُفلح وراءه إلى بلاد الروم.
وفيها، آخر ذي القعدة، انقضّ كوكب عظيم، وصار له ضوء عظيم جدّاً.
وفيها هبّت ريح شديدة، وحملت رملاً أحمر شديد الحمرة، فعمّ جانبَيْ بغداد، وامتلأت منه البيوت والدروب؛ يشبه رمل طريق مكّة.
وفيها توفّي أبو بكر أحمد بن الحسن بن الفرج بن سقير النجويُّ، كان عالماً بمذهب الكوفّيين، وله فيه تصانيف. ثم دخلت:

.سنة ثماني عشرة وثلاثمائة:

.ذكر هلاك الرجّالة المصافيّة:

في هذه السنة، في المحرّم، هلك الرجّالة المصافيّة، وأُخرجوا من بغداد، بعد ما عظم شرّهم، وقوي أمرهم.
وكان سبب ذلك أنّهم لّما أعادوا المقتدر إلى الخلافة، على ما ذكرناه، زاد إدلالهم واستطالتهم، وصاروا يقولون أشياء لا يحتملها الخلفاء، منها أنّهم يقولون: مَن أعان ظالماً سلّطه الله عليه، ومن يُصعد الحمار إلى السطح يقدر يحطّه، وأن لم يفعل المقتدر معنا ما نستحقّهُ، قاتلناه بما يستحقّ، إلى غير ذلك.
وكثر شغبهم ومطالبتهم، وأدخلوا في الأرزاق أولادهم، وأهليهم، ومعارفهم، وأثبتوا أسماءهم، فصار لهم في الشهر مائة ألف وثلاثون ألف دينار.
واتّفق أن شغب الفرسان في طلب أرزاقهم، فقيل لهم: إنّ بيت المال فارغ وقد انصرف الأموال إلى الرجّالة، فثار بهم الفرسان، فاقتتلوا، فقُتل من الفرسان جماعة، واحتجّ المقتدر بقتلهم على الرجّالة، وأمر محمّد بن ياقوت فركب، وكان قد استعمل على الشُّرطة؛ فطرد الرجّالة عن دار المقتدر، ونودي فيهم بخروجهم عن بغداد، ومن أقام قُبض عليه وحُبس؛ وهُدمت دور زُعمائهم، وقُبضت أملاكهم، وظَفر، بعد النداء، بجماعة منهم، فضربهم، وحلق لحاهم، وشهّر بهم.
وهاج السودان تعصُّباً للرجّالة، فركب محمّد أيضاً في الحجريّة، وأوقع بهم، وأحرق منازلهم، فاحترق فيها جماعة كثيرة منهم، ومن أولادهم، ومن نسائهم، فخرجوا إلى واسط، واجتمع بها منهم جمع كثير، وتغلّبوا عليها، وطرحوا عامل الخليفة، فسار إليهم مؤنس، فأوقع بهم، وأكثر القتل فيهم، فلم تقم لهم بعدها راية.

.ذكر عزل ناصر الدولة بن حمدان عن الموصل وولاية عمّيه سعيد ونصر:

في هذه السنة، في ربيع الأوّل، عُزل ناصر الدولة الحسن بن عبدالله بن حمدان عن الموصل، ووليها عمّاه سعيد ونصر ابنا حمدان، ووليَ ناصر الدولة ديار ربيعة، ونَصِيبين، وسِنجار، والخابور، ورأس عين، ومعها، من ديار بكر، ميّافَارقين وأرزن، ضمن ذلك بمال مبلغه معلوم، فسار إليها، ووصل سعيد إلى الموصل في ربيع الآخر.

.ذكر عزل ابن مقلة ووزارة سليمان بن الحسن:

وفي هذه السنة عُزل الوزير أبو عليّ محمّد بن مقلة من وزارة الخليفة.
وكان سبب عزله أنّ المقتدر كان يتّهمه بالميل إلى مؤنس المظفَّر، وكان المقتدر مستوحشاً من مؤنس، ويُظهر له الجميل، فاتّفق أنّ مؤنساً خرج إلى أوانا، وعُكبرا، فركب ابن مقلة إلى دار المقتدر آخر جمادى الأولى، فقُبض عليه.
وكان بين محمّد بن ياقوت وبين ابن مقلة عداوة، فأنفذ إلى داره بعد أن قبض عليه، وأحرقها ليلاً.
وأراد المقتدر أن يستوزر الحسين بن القاسم بن عبدالله، وكان مؤنس قد عاد فأنفذ إلى المقتدر مع عليّ بن عيسى يسأل أن يُعاد ابن مقلة، فلم يجب المقتدر إلى ذلك، وأراد قتل ابن مقلة، فردّه عن ذلك، فسأل مؤنس أن لا يستوزر الحسين، فتركه، واستوزر سليمان بن الحسن منتصف جمادى الأولى، وأمر المقتدر بالله عليَّ بن عيسى بالاطلاّع على الدواوين، وأن لا ينفرد سليمان عنه بشيء، وصودر أبو عليّ بن مقلة بمائتَي ألف دينار، وكانت مدّة وزارته سنتَين وأربعة أشهر وثلاثة أيّام.

.ذكر القبض على أولاد البريديّ:

كان أولاد البريديّ، وهم أبو عبدالله، وهم أبو عبدالله، وأبو يوسف، وأبو الحسين، قد ضمنوا الأهواز، كما تقدّم، فلمّا عُزل الوزير ابن مقلة كتب المقتدر بخطّ يده إلى أحمد بن نصر القشوريّ الحاجب يأمره بالقبض عليهم، ففعل، وأودعهم عنده في داره. ففي بعض الأيّام سمع ضجّة عظيمة، وأصواتاً هائلة، فسأل: ما الخبر؟ فقيل: إنّ الوزير قد كتب بإطلاق بني البريديّ، وأنفذ إليه أبو عبدالله كتاباً مزوّراً يأمره فيه بإطلاقهم، وإعادتهم إلى أعمالهم، فقال لهم أحمد: هذا كتاب الخليفة بخطّه، يقول فيه: لا تطلقهم حتّى يأتيك كتاب آخر بخطيّ.
ثمّ ظهر أنّ الكتاب مزوَّر، ثمّ أنفذ المقتدر فاستحضرهم إلى بغداد، وصودروا على أربعمائة ألف دينار، وكان لا يطمع فيها منهم، وإنّما طلب منهم هذا القدر ليجيبوا إلى بعضه، فأجابوا إليه جميعه ليتخلّصوا ويعودوا إلى عملهم.

.ذكر خروج صالح والأغرّ:

وفي هذه السنة، في جمادى الأولى، خرج خارجيٌّ من بجيلة، من أهل البوازيج، اسمه صالح بن محمود، وعبر إلى البريّة، واجتمع إليه جماعة من بني مالك، وسار إلى سِنجار فأخذ من أهلها مالاً، فلقيه قوافل، فأخذ عُشرها، وخطب بسنجار، فذكّر بأمر الله، وحذّر، وأطال في هذا، ثمّ قال: نتولّى الشيخَيْن، ونبرأ من الخبيثَيْن، ولا نرى المسح على الخفّيْن.
وسار منها إلى الشجاجية، من أرض الموصل، فطالب أهلَها وأهل أعمال الفَرَج بالعُشر، وأقام أيّاماً، وانحدر إلى الحديثة، تحت الموصل، فطالب المسمين بزكاة أموالهم، والنصارى بجزية رؤوسهم، فجرى بينهم حرب، فقُتل من أصحابه جماعة، ومنعوه من دخولها، فأحرق لهم ستّ عُروب، وعبر إلى الجانب الغربيّ، وأسر أهلُ الحديثة ابناً لصالح اسمه محمّد، فأخذه نصر بن حمدان بن حمدون، وهو الأمير بالموصل، فأدخله إليها، ثمّ سار صالح إلى السنّ، فصالحه أهلها على مال أخذه منهم، وانصرف إلى البوازيج، وسار منها إلى تلْ خوسا، قرية من أعمال الموصل عند الزاب الأعلى، وكاتب أهل الموصل في أمر ولده، وتهدّدهم أن لم يردّوه إليه، ثمّ رحل إلى السلاميّة، فسار إليه نصر بن حمدان لخمس خلون من شعبان من هذه السنة، ففارقها صالح إلى البوازيج، فطلبه نصر، فأدركه بها، فحاربه حرباً شديدة قُتل فيها من رجال صالح نحو مائة رجل، وقُتل من أصحاب نصر جماعة، وأُسر صالح ومعه ابنان له، وأُدخلوا إلى الموصل، وحُملوا إلى بغداد فأُدخلوا مشهورين.
وفيها، في شعبان، خرد بأرض الموصل خارجيٌّ اسمه الأغر بن مطرة الثعلبيُّ، وكان يذكر أنّه من ولد عتّاب بن كلثوم التغلبي أخي عمرو بن كلثوم الشاعر، وكان خروجه بنواحي رأس العين، وقصد كفَر توثا وقد اجتمع معه نحو ألفَيْ رجل، فدخلها ونهبها وقتل فيها.
وسار إلى نَصِيبين، فنزل بالقرب منها، فخرج إليه وإليها ومعه جمع من الجند ومن العامّة، فقاتلوه، فقتل الشاريُّ منهم مائة رجل، وأسر ألف رجل، فباعهم نفوسهم، وصالحه أهل نصيبين على أربعمائة ألف درهم.
وبلغ خبره ناصر الدولة بن حمدان، وهو أمير ديار ربيعة، فسيّر إليه جيشاً، فقاتلوه، فظفروا به وأسروه، وسيّره ناتصر الدولة إلى بغداد.

.ذكر مخالفة جعفر بن أبي جعفر:

كان جعفر بن أبي جعفر بن أبي داود مقيماً بالخُتَّل، والياً عليها للسامانيّة، فبدت منه أمور نُسبت بسببها إلى الإستعصاء، فكوتب أبو عليّ أحمد بن محمّد بن المظفَّر بقصده، فسار إليه، وحاربه، فقبض عليه، وحمله إلى بخارى، وذلك قبل مخالفة أبي زكرياء يحيى، فلّما حُمل إلى بخارى حُبس فيها، فلمْا خالف أبو زكرياء يحيى أخرجه من الحبس وصحبه، ثمّ استأذنه في العود إلى ولاية الخُتَّل وجمْع الجيوش له بها، فأذن له فسار إليها، وأقام بها، وتمسّك بطاعة السعيد نصر بن أحمد، فصلح حاله، وذلك سنة ثماني عشرة وثلاثمائة.
الخُتَّل بالخاء المعجمة والتاء فوقها نقطتان والخاء مضمومة والتاء مشدّدة مفتوحة.

.ذكر عدّة حوادث:

في هذه السنة شغب الفرسان، وتهدّدوا بخلع الطاعة، فأحضر المقتدر قوّادهم بين يديه، ووعدهم الجميل، وأن يطلق أرزاقهم في الشهر المقبل، فسكنوا، ثمّ شغب الرجّالة، فأُطلقت أرزاقهم.
وفيها خلع المقتدر على ابنه هارون، وركب معه الوزير، والجيش، وأعطاه ولاية فارس وكَرْمَان وسِجِستان ومكران.
وفيها أيضاً خلع على ابنه أبي العبّاس، وأقطعه بلاد الغرب، ومصر، والشام، وجعل مؤنساً المظفَّر يخلفه فيها.
وفيها صُرف ابنا رائق عن الشُّرطة، وقُلّدها أبو بكر محمّد بن ياقوت.
وفيها وقعت فتنة بنَصِيبين بين أهل باب الروم والباب الشرقيّ، واقتتلوا قتالاً شديداً، وأدخلوا إليهم قوماً من العرب والسواد، فقُتل بينهم جماعة، وأُحرقت المنازل والحوانيت، ونُهبت الأموال، ونزل بهم قافلة عظيمة تريد الشام، فنهبوها.
وفيها توفّي يحيى بن محمّد بن صاعد البغداديُّ وكان عمره تسعين سنة، وهو من فضلاء المحدّثين، والقاضي أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخيُّ الفقيه الحنفيُّ، وكان عالماً بالأدب ونحو الكوفّيين، وله شعر حسن. ثم دخلت:

.سنة تسع عشرة وثلاثمائة:

.ذكر تجدُّد الوحشة بين مؤنس والمقتدر:

في هذه السنة تجدّدت الوحشة بين مؤنس المظفَّر وبين المقتدر بالله.
وكان سببها أنّ محمّد بن ياقوت كان منحرفاً على الوزير سليمان، ومائلاً إلى الحسين بن القاسم، وكان مؤنس يميل إلى سليمان، بسبب عليّ بن عيسى، وثقتهم به، وقوي أمر محمّد بن ياقوت، وقُلّد، مع الشُّرطة، الحِسبة، وضمّ إليه رجالاً، فقوي بهم، فعظم ذلك على مؤنس، وسأل المقتدر صرف محمّد عن الحسبة، وقال: هذا شغل لا يجوز أن يتولاّه غير القضاة والعدول؛ فأجابه المقتدر.
وجمع مؤنس إليه أصحابه، فلمّا فعل ذلك جمع ياقوت وابنه الرجال في دار السلطان، وفي دار محمّد بن ياقوت، وقيل لمؤنس: إنّ محمّد بن ياقوت قد عزم على كبس دارك ليلاً؛ ولم يزل به أصحابه حتّى أخرجوه إلى باب الشَّمّاسيّة فضربوا مضاربهم هناك، وطالب المقتدر بصرف ياقوت عن الحجبة وصرف ابنه عن الشُّرطة، وإبعادهما عن الحضرة، فأُخرجا إلى المدائن.
وقلّد المقتدر ياقوتاً أعمال فارس وكرمان، وقلّد ابنه المظفَّر بن ياقوت أصبهان، وقلّد أبا بكر محمّد بن ياقوت سِجِستان، وتقلّد ابنا رائق إبراهيم ومحمّد مكان ياقوت وولده الحجبة والشُّرطة، وأقام ياقوت بشِيراز مدّة.
وكان عليُّ بن خلف بن طياب ضامناَ أموال الضياع والخراج بها، فتظافرا، وتعاقدا، وقطعا الحمل على المقتدر، إلى أن ملك عليُّ بن بُوَيْه الديلميُّ بلاد فارس سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.

.ذكر قبض الوزير سليمان ووزارة أبي القاسم الكلوذانيّ:

وفي هذه السنة قبض المقتدر على وزيره سليمان بن الحسن.
وكان سبب ذلك أن سليمان ضاقت الأموال عليه إضافة شديدة، وكثرت عليه المطالبات، ووقفت وظائف السلطان، واتّصلت رقاع مَن يُرَشّح نفسه للوزارة بالسعاية به، والضمان بالقيام بالوظائف، وأرزاق الجند، وغير ذلك، فقبض عليه، ونقله إلى داره.
وكان المقتدر كثير الشهوة لتقليد الحسين بن القاسم الوزارة، فامتنع مؤنس من ذلك، وأشار بوزارة أبي القاسم الكلْوذانيّ، فاضطر المقتدر إلى ذلك، فاستوزره لثلاث بقين من رجب، فكانت وزارة سليمان سنة واحدة وشهَريْن، وكانت وزارته غير متمكّنة أيضاً، فإنّه كان عليُّ بن عيسى معه على الدواوين وسائر الأمور، وأُفرد عليُّ بن عيسى عنه بالنظر في المظالم، واستعمل على ديوان السواد غيره، فانقطعت موادّ الوزير، فإنّه كان يقيم مِن قبله من يشتري توقيعات أرزاق جماعة لا يمكنهم مفارقة ما هم عليه بصدده من الخدمة، فكان يعطيهم نصف المبلغ، وكذلك إدرارات الفقهاء وأرباب البيوت إلى غير ذلك.
وكان أبو بكر بن قرابة منتمياً إلى مُفلح الخادم، فأوصله إلى المقتدر، فذكر له أنّه يعرف وجوه مرافق الوزراء، فاستعمله عليها ليصلحها للخليفة، فسعى في تحصيل ذلك من العمّال، والضُّمّان، والتُّنّاء وغيرهم، فأخلق بذلك الخلافة، وفضح الديوان، ووقفت أحوال الناس، فإنّ الوزراء وأرباب الولايات لا يقومون بأشغال الرعايا والتعب معهم إلاّ لرفق يحصل لهم، وليس لهم من الدين ما يحملهم على النظر في أحوالهم، فإنّه بعيد منهم، فإذا منعوا تلك المرافق تركوا الناس يضطربون، ولا يجدون مَن يأخذ بأيديهم، ولا يقضي حوائجهم، فإنّي قد رأيتُ هذا عياناً في زماننا هذا، وفات به من المصالح العامّة والخاصّة ما لا يحصى.

.ذكر الحرب بين هارون وعسكر مرداويج:

قد ذكرنا فيما تقدّم قتل أسفار وملك مرداويج، وأنّه استولى على بلد الجبل والرَّيّ وغيرهما، وأقبلت الدَّيلم إليه من كلّ ناحية لبذله وإحسانه إلى جنده، فعظمت جيوشه، وكثرت عساكره، وكثر الخرج عليه، فلم يكفه ما في يده، ففرّق نوّابه في النواحي المجاورة له.
فكان مّمن سيّره إلى همَذان ابن أخت له في جيش كثير، وكان بها أبو عبد الله محمّد بن خلف في عسكر الخليفة، فتحاربوا حروباً كثيرة، وأعان أهل همذان عسكر الخليفة، فظفروا بالديلم، وقُتل ابن أخت مرداويج، فسار مرداويج من الرَّيّ إلى همذان، فلمّا سمع أصحاب الخليفة بمسيره انهزموا من همذان، فجاء إلى همذان، ونزل على باب الأسد، فتحصّن منه أهلها، فقاتلهم، فظفر بهم وقتل منهم خلقاً كثيراً، وأحرق وسبى، ثم رفع السيف عنهم وأمّن بقيتهم.
فأنفذ المقتدر هارونَ بن غريب الخال في عساكر كثيرة إلى محاربته، فالتقوا بنواحي همذان، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم هارون وعسكر الخلية، واستولى مرداويج على بلاد الجبل جميعها، وما وراء همذان، وسيّر قائداً كبيراً من أصحابه يُعرف بابن علاّن القزوينيّ إلى الدّينَور، ففتحها بالسيف، وقتل كثيراً من أهلها، وبلغت عساكره إلى نواحي حُلوان، فغنمت، ونهبت، وقتلت، وسبت الأولاد والنساء، وعادوا إليه.